عطر نسائي .. و رجل
في غرفة تقع في الطابق الثاني على زاوية البيت تطل على الحي القديم من
خلالها يستطيع من يجلس امام النافذة ان ينظر الى جزء من الحي الأمامي و الجزء
الخلفي ، منضدة خشبية قديمة بها نقوش جميلة و كرسي خشبي كبير ، في ركن اليمين من
الغرفة هناك مكتبة صغيرة ذات باب زجاجي به عدة زجاجات مشابهة لعطر واحد فقط و لون
تلك الزجاجة بنفسجي يميل الى البياض قليلا" بعض تلك الزجاجات خالية
تماما" و بعضها ما زال بها بضع قطرات من العطر .
الساعة تشير الى انتهاء الخامسة و دخول السادسة .. وقت المغرب .
جلس على كرسيه بجوار النافذة ينظر الى النافذة .. الوقت الآن وقت رومنسي
المنظر الا و هو وقت الغروب و لكن في شهر ديسمبر و وسط تلك الغيوم المتجمعة في
السماء و بعض زخات المطر تغيب تلك الصورة الشاعرية التقليدية .
جلس على الكرسي ممسكا" بكوب يتصاعد منه دخان خفيف و رائحة مافي الكوب
تدريجيا بدأ بالانتشار في ارجاء الغرفة و هل هناك اطيب من الحليب الساخن الممزوج
بالزنجبيل .. ينظر الى المنظر امامه لا شيء سوى حي قديم و ابواب خشبية و ممرات
ضيقة اسمنتية مبللة و بعض تجمعات لماء المطر هنا و هناك .
مجموعة من الاطفال يلعبون تحت تلك القطرات الباردة التي تنزل من السماء ،
يرجع بكرسيه للخلف و يسند رأسه و يتذكر تلك الطفولة التي غابت و رحلت منذ سنين
طويلة ، و اثناء رحلة الرجوع للذكريات توقف امام منزل تلك الفتاة .. نعم يا سادة
فتاة .. توقف ونظر ثم ابتسم .. تلك هي التي جمعتم .. الابتسامة .
سنة 1993 في شهر ديسمبر هطلت امطار غزيرة و غرقت تلك الزقاق الرملية و
ابتلت الملابس و الاجساد ، صار الطين متجمعا في كل مكان و تلك البركة الكبيرة التي
تحمل كل المطر في وسط الحي و بعض الطرق صارت للسباحة لا للمشي كان شهر شتوي ممطر
بشكل لا و لن و لم يتكرر حتى اليوم ، اضطر صاحبنا و هو صغير مراهق في بداية
اكتشافه لحياته بأن يغير مساره نحو البيت فتوجه الى ذلك الطريق الضيق المبلل بشكل
خفيف بسبب تلك الاشجار الكبيرة التي منعت من غرق المكان ، توجه الى ذلك الممر و هو
ينظر الى خطواته لكي لا يتسخ بالطين او يقع في الماء المتراكم على اطراف الطريق
توقف فجأة امام باب ذلك البيت ، شده شيء ما .. اقترب من ذلك الباب المفتوح و رأى
بعض الاطفال يخرجون و هم يضحكون ، امتزج صوت الشقاوة مع صوت انثوي لا ينسى .. ذلك
الصوت الذي ينادي عليهم و يأمرهم بالدخول ، اقترب اكثر من الباب لأنه لا يستطيع ان
يقاوم ذلك العبير ، و فجأة خرجت من الباب و لم تلاحظ وجوده فوقفت تنادي عليهم و
تأمرهم بالدخول والا سوف تضربهم ، و هل هذه من الذين يضربون فيتألم الشخص ؟ هي
انثى بمعنى الكلمة ، صوت اشبه بموج البحر الخفيف الذي يغازل رمال الشاطئ و تلك
الملامح التي لا تتكرر فلا توجد 39 شبيهة لها ، عيون مرسومة بكحل اسود زينت بها
مقلتاها ، و الشعر الاسود الطويل الناعم يغطي نصف وجهها بنصف وجهها ملكت مشاعره
منذ النظرة الاولى فماذا سيكون حاله ان شاهد وجهها بالكامل ، اقترب اكثر لكي
يستنشق ذلك العطر الذي لا مثيل له فانتبهت له .. جفلت .. اخذت شهقة بها حياء و خجل
و دلع وغنج و انوثة ، دخلت مسرعة الى الداخل و لكنها لا تزال خلف الباب تنظر ، و
هو واقف امام الباب لا يفكر الا بها ، ففي هذه اللحظة لا يرى سواها ولا يوجد بعقله
اي شيء سوى تلك الفتاة ، ينظر اليها و
تبادله النظرات هو يعتليه الاعجاب و العجب و هي الخجل و العجب يستعمران ملامحها .
منذ تلك اللحظة و هو يتردد على هذا الطريق دائما و يبادلها النظرات ، لم
يتجرأ بأن يسألها عن اسمها و لم تكن هي تلك الفتاة الجريئة بأن تنطق امامه مرة
اخرى ، اكتفى بسماع صوتها وهي داخل البيت
حينما تغني بعض من اغاني الرسوم المتحركة و تردد مع اخوانها اثناء اللعب ، اكتفى
بذلك الشدو الذي زرع الشجن في داخله وجعل من ذلك الممر مزار يوميا" يقف فيه
حتى يأخذ من طلتها بركات الحب .
مرت 3 سنوات و هو على هذا الحال ، يعيش معها حب لم يصل الى مرحلة الحوار
بالكلام ، اكتفيا بالتحاور عن طريق النظرات ، الابتسامة ، الاشارة ، تومئ برأسها
تخبره بأنها بخير و هو يبتسم لها حينما تشير الى ثوبها الجديد ، كان يتاخر عن
المنزل او عن المسجد او عن المدرسة فقط لأنه يأخذ ذلك الطريق ، سألها ذات مرة عن
عطرها الجميل و كان يشير لها دائما بدل الكلام فابتسمت ، و يوم ميلاده توجه نحو
بيتها فوجدها مبتسمة له كعادتها تشرق له الحياة بعد شروق الشمس ، وضعت له كيس
ملونا" و دخلت مسرعة ، تعجب منها اقترب من الكيس فوجد بها هدية ملفوفة بشكل
بسيط اخذ الكيس و ركض باتجاه البيت ، لم يكن يركض بل وصل الى البيت طيران ، اتجه
الى فوق السطح فهناك كثيرا ما كان يجلس ينظر خلف بيتهم ليحاول من بين تلك الاغصان
الكبيرة المتفرعة ان يسرق نظرة للحوش و يشاهدها ، فتح العلبة و اذا بتلك الزجاجة
التي فاح ما بها من عطر و انتشر ، صعد من الفرحة الى السماء ، عانق النجوم ، جلس
في تلك الليلة يحتفل بعيد ميلاده فوق سطح القمر ، هو و زجاجة العطر ، كان عطرها
المفضل ، كانت المناسبات بالنسبة له اعياد ففي كل مناسبة كانت هناك زجاجة عطر له ،
و هو يجمع مصروفه طوال الشهر لكي يفاجئها بتلك الهداية البسيطة و لكنها بالنسبة
لهم غالية جدا" ، يندر الكلام بينهم ، فقط نظرات و اشارات ، و الحب كان اقوى
من اي حب في زمننا هذا كانت هي كل شيء
بالنسبة له .. حتى اتى ذلك اليوم .
اصيب بالحمى فبات في فراشه 5 ايام لا يقوى على الحراك ، يحاول بأن يتحرك و
لكن تلك الحمى التي انتشرت و انتقلت اليه جعلته ملازم سريره و غرفته ، حاول عدة
مرات ولكن لا جدوى من الحراك ، كان يعد تلك الايام و الساعات و ينتظر الشفاء حتى
اتى ذلك اليوم الذي صحا من نومه فوجد نفسه سليم الجسد والصحة ، نال الكثير من
الصبر فشبع و لم يعد له مكان عنده بملابس النوم خرج و ركض نحو بيتها فوقف . توقف
كل شيء ، توقف صوت الهواء ، توقف صوت الناس ، صوت الحياة ، صوت الدنيا ، توقف
الوقت ، عقارب الساعة ، توقفت ملامحه و كاد ان يتوقف قلبه الذي ينبض بسرعة ...
البيت عليه لوحة كبيرة ( للبيع ) .
تغيرت حياته في لحظات كاد ان يجن ، يود ان يبكي و يصرخ ، يكاد ان يضحك و
ينوح ، ينظر حوله فرأى احد الصبية سأله عنهم فقال له بأنهم انتقلوا منذ 5 ايام فلقد توفى والدها في الكويت و رجعوا الى
هناك .
صمت .. ظلام .. هدوء .. سكون .. ليل لا نهار له ..
جلس في مكانه يفكر بلا شيء ، ضاعت كل الافكار ، بعد 3 سنوات لم يستطع في 5
ايام فقط بأن يخبرها كم اشتاق لها ..
حاول بشتى الطرق بأن يصل اليها ، صغر سنه منعه من السفر دون اهله، حاول ان
يسأل و لكن لا جواب ، كل يوم يتجه الى ذلك المكان و لكن لا جديد ، تمنى لو انه كان
يكلمها بالهاتف ، لكان هناك أمل بأن يسمع صوتها ضمن مكالمة دولية ولكن .
في يوم من الايام و هو قاطع الامل مر من جوار البيت فلم يجد لوحة ( للبيع )
ابتسم حينما رأى الباب مفتوحا" على مصراعيه و عمال نقل الاثاث يدخلون و
يخرجون توجه الى الباب المفتوح و نظر الى الداخل فوجد عائلة جديدة سكنت في البيت ،
اقترب منه صاحب البيت فسلم عليه الفتى و سأله هل لديه صلة قرابة بمن كانوا يسكنون
هنا ، طبعا لا .
تمر الايام و السنين و لكن لا فائدة ، الكل ينسى و تظل الذكريات حاضرة ،
الا هو لا ينسى و لايردها ان تكون مجرد ذكريات فقد كان يعيشها كل يوم ، يستنشق من
عطرها ، كان سعر زجاجة العطر لا يتعدى ال30 درهما و حينما انتهى من الدراسة و بدأ
العمل في احدى الوزارات فتح مشروعه الصغير وهو محل لبيع العطور في احدى الاسواق
القديمة .
مرت سنين و الحال لم يتغير ، انتقل الجميع من الحي القديم و ظل هو ساكن في
نفس المكان ، يعمل بعد ان انهى دراسته ، سافر الى الكويت عدة مرات ، بحث عنها في
جميع المواقع ، فيس بوك ، تويتر ، انستغرام ، لم يجد اسمها قط . ولا اي شي يدل
عليها ، حتى غوغل لم ينجح في ايجادها .
كان الجميع يتعجب منه لماذا يحب ذلك العطر النسائي ، ولا يغيره رغم رخص
ثمنه و لم يكن يجيب على تلك الاسئلة و كان يترك لهم اجابة واحدة سطحية و هي انها
مسألة ذوق فقط .
فتح عيناه و مسح دمعته الصغيرة ، قطع شريط الذكريات صوت جرس الباب ، نزل
الى الحوش و تقدم نحو الباب فتوقف برهة ، اشتم ثيابه تعجب ، فاليوم لم يلمس تلك
الزجاجات ، من أين يأتي هذا العطر ، جحظت عيناه تسارعت نبضات قلبه اسرع في خطواته
نحو الباب فتح الباب و اذا بطفل صغير يقف امام الباب ينظر اليه مبتسما ، تعجب
الرجل من وجود الطفل الذي لم يتجاوز الثلاث سنوات .
نظر الى الخارج فوجد سيارة تقف بالجوار ذات زجاجات مظللة ، سأل الطفل من
انت و ماذا تفعل هنا ، اخذ يفكر ، من يزورني في هذا الوقت ، من هذا الطفل ،
حمل الطفل فبكى الرجل لم يحتمل ، فلقد كان الطفل معطرا" بنفس العطر ،
اتجه الى السيارة و قبل ان يصل اليها حاول ان يكتم تلك الغصات ، توقف الوقت فجأة و
توقف كل شيء .. نزلت امرأة من السيارة في قمة الجمال و الانوثة ، ابتسمت له و قالت
.. هذا ولدي و اسمه على اسمك .. لم انسى تلك الطفولة الرومنسية التي زرعتها في
قلبي ، رحلت عنك لاسباب قهرية .. اعذرني
هل يعقل بأن ما يحدث في الافلام و المسلسلات حدث لي اليوم ؟؟ هذا كان
السؤال الأول الذي اقتحم عقله ، فلم يصدق ما حدث و كان يصرخ في داخله بجملة واحدة
و هي ( ولا في الاحلام ) .
لم يستطع ان يتحمل ما حدث له اعطاها الطفل و جلس في مكانه على الارض يود ان
يصرخ من الفرحة .. اراد ان يبكي ، نهض
متثاقلا" ممسكا بباب السيارة ، لا يعرف ما يقوله ، هل يغضب منها ، هل يعاتبها
، هل يحضنها ، و هذا الطفل ، من هو والده
و هل هو معها ؟
لم يستطع ان يفتح فمه لكي يكلمها و حاول ان يفتح اي موضوع معها فقالت له
بأنها انفصلت عن ابن عمها الذي لم يقدر الحياة الزوجية بعدما خانها مع احدى
الفتيات التي يترددن عليه في المحل و كشفته و لم يكن هناك حل سوى الطلاق ، و بررت
غيابها بأن وضعهم المادي و النفسي منعها من التواصل معه و لم تنسى اي شيء من
ذكرياته الجميلة و حينما تزوجت تركته في خانة ذكريات الطفولة و عاشت حياتها
الزوجية و لكن بعد القسوة و المرارة كانت ترجع الى تلك الخانة و تجلس بين تلك
الذكريات فتبتسم ، و هي ايضا بحثت فوجدته في احدى المواقع و ظلت تتابعه و تتابع
اخباره حتى اختارت هذا اليوم لكي تلتقي به .
قالت له بأن اللقاء الأول كان في الشتاء ، في ديسمبر ، في نفس هذا الوقت ،
و قال لها بأنه لم يستطع ان يفارقها فظلت معه في خياله و احلامه و حياته ، ادخلت
يدها في السيارة و اخرجت علبة مغلفة و اعطته ، ابتسم و قال لها .. هل هذا من مصروف
المدرسة ام ... ضحكت و قالت بأنها اشترته من محل العطور الذي يمتلكه هو .
بدأ حديثه بتلك العبارات التي كان يحاول ان يقولها لها و عن مدى اشتياقه
لها و كيف حزن على فراقها ، قال لها بأن قلبه لا يميل الى اي انثى نظر اليها و لم
يفكر الا فيها ، و ان حياته كانت لا تحمل الكثير من الألوان ، سوى لون الزجاجة ،
البنفسجي الممزوج بالأبيض، حياته كانت عبارة عن ذلك العطر النسائي الذي عاش معه
طول هذه السنين .
طال الوقوف امام الباب و تحادثا و دخلا في حوارات طويلة لم تنتهي ، و قرر بعد
ساعات من الحديث ان لا يضيع تلك الفرصة مرة اخرى ودعها الى لقاء قريب و بعدها قرر ان
يأخذ اجازة و يتوجه الى الكويت لكي يخطبها و بعد ان تمت الموافقة توجه مع عائلته الى
الكويت و تزوجها و مرت الايام و السنين و
عاشا حياتهما و في كل ديسمبر يتذكران حبهما الدافئ الذي اتى في وسط البرد و المطر
.. ذلك الحب المعطر بالعطر النسائي .. حب بسيط .. بريء .. جميل