الجمعة، 7 ديسمبر 2012

عطر نسائي .. و رجل


عطر نسائي .. و رجل
في غرفة تقع في الطابق الثاني على زاوية البيت تطل على الحي القديم من خلالها يستطيع من يجلس امام النافذة ان ينظر الى جزء من الحي الأمامي و الجزء الخلفي ، منضدة خشبية قديمة بها نقوش جميلة و كرسي خشبي كبير ، في ركن اليمين من الغرفة هناك مكتبة صغيرة ذات باب زجاجي به عدة زجاجات مشابهة لعطر واحد فقط و لون تلك الزجاجة بنفسجي يميل الى البياض قليلا" بعض تلك الزجاجات خالية تماما" و بعضها ما زال بها بضع قطرات من العطر .
الساعة تشير الى انتهاء الخامسة و دخول السادسة .. وقت المغرب .
جلس على كرسيه بجوار النافذة ينظر الى النافذة .. الوقت الآن وقت رومنسي المنظر الا و هو وقت الغروب و لكن في شهر ديسمبر و وسط تلك الغيوم المتجمعة في السماء و بعض زخات المطر تغيب تلك الصورة الشاعرية التقليدية .
جلس على الكرسي ممسكا" بكوب يتصاعد منه دخان خفيف و رائحة مافي الكوب تدريجيا بدأ بالانتشار في ارجاء الغرفة و هل هناك اطيب من الحليب الساخن الممزوج بالزنجبيل .. ينظر الى المنظر امامه لا شيء سوى حي قديم و ابواب خشبية و ممرات ضيقة اسمنتية مبللة و بعض تجمعات لماء المطر هنا و هناك .
مجموعة من الاطفال يلعبون تحت تلك القطرات الباردة التي تنزل من السماء ، يرجع بكرسيه للخلف و يسند رأسه و يتذكر تلك الطفولة التي غابت و رحلت منذ سنين طويلة ، و اثناء رحلة الرجوع للذكريات توقف امام منزل تلك الفتاة .. نعم يا سادة فتاة .. توقف ونظر ثم ابتسم .. تلك هي التي جمعتم .. الابتسامة .
سنة 1993 في شهر ديسمبر هطلت امطار غزيرة و غرقت تلك الزقاق الرملية و ابتلت الملابس و الاجساد ، صار الطين متجمعا في كل مكان و تلك البركة الكبيرة التي تحمل كل المطر في وسط الحي و بعض الطرق صارت للسباحة لا للمشي كان شهر شتوي ممطر بشكل لا و لن و لم يتكرر حتى اليوم ، اضطر صاحبنا و هو صغير مراهق في بداية اكتشافه لحياته بأن يغير مساره نحو البيت فتوجه الى ذلك الطريق الضيق المبلل بشكل خفيف بسبب تلك الاشجار الكبيرة التي منعت من غرق المكان ، توجه الى ذلك الممر و هو ينظر الى خطواته لكي لا يتسخ بالطين او يقع في الماء المتراكم على اطراف الطريق توقف فجأة امام باب ذلك البيت ، شده شيء ما .. اقترب من ذلك الباب المفتوح و رأى بعض الاطفال يخرجون و هم يضحكون ، امتزج صوت الشقاوة مع صوت انثوي لا ينسى .. ذلك الصوت الذي ينادي عليهم و يأمرهم بالدخول ، اقترب اكثر من الباب لأنه لا يستطيع ان يقاوم ذلك العبير ، و فجأة خرجت من الباب و لم تلاحظ وجوده فوقفت تنادي عليهم و تأمرهم بالدخول والا سوف تضربهم ، و هل هذه من الذين يضربون فيتألم الشخص ؟ هي انثى بمعنى الكلمة ، صوت اشبه بموج البحر الخفيف الذي يغازل رمال الشاطئ و تلك الملامح التي لا تتكرر فلا توجد 39 شبيهة لها ، عيون مرسومة بكحل اسود زينت بها مقلتاها ، و الشعر الاسود الطويل الناعم يغطي نصف وجهها بنصف وجهها ملكت مشاعره منذ النظرة الاولى فماذا سيكون حاله ان شاهد وجهها بالكامل ، اقترب اكثر لكي يستنشق ذلك العطر الذي لا مثيل له فانتبهت له .. جفلت .. اخذت شهقة بها حياء و خجل و دلع وغنج و انوثة ، دخلت مسرعة الى الداخل و لكنها لا تزال خلف الباب تنظر ، و هو واقف امام الباب لا يفكر الا بها ، ففي هذه اللحظة لا يرى سواها ولا يوجد بعقله اي شيء سوى تلك الفتاة  ، ينظر اليها و تبادله النظرات هو يعتليه الاعجاب و العجب و هي الخجل و العجب يستعمران ملامحها .
منذ تلك اللحظة و هو يتردد على هذا الطريق دائما و يبادلها النظرات ، لم يتجرأ بأن يسألها عن اسمها و لم تكن هي تلك الفتاة الجريئة بأن تنطق امامه مرة اخرى  ، اكتفى بسماع صوتها وهي داخل البيت حينما تغني بعض من اغاني الرسوم المتحركة و تردد مع اخوانها اثناء اللعب ، اكتفى بذلك الشدو الذي زرع الشجن في داخله وجعل من ذلك الممر مزار يوميا" يقف فيه حتى يأخذ من طلتها بركات الحب .
مرت 3 سنوات و هو على هذا الحال ، يعيش معها حب لم يصل الى مرحلة الحوار بالكلام ، اكتفيا بالتحاور عن طريق النظرات ، الابتسامة ، الاشارة ، تومئ برأسها تخبره بأنها بخير و هو يبتسم لها حينما تشير الى ثوبها الجديد ، كان يتاخر عن المنزل او عن المسجد او عن المدرسة فقط لأنه يأخذ ذلك الطريق ، سألها ذات مرة عن عطرها الجميل و كان يشير لها دائما بدل الكلام فابتسمت ، و يوم ميلاده توجه نحو بيتها فوجدها مبتسمة له كعادتها تشرق له الحياة بعد شروق الشمس ، وضعت له كيس ملونا" و دخلت مسرعة ، تعجب منها اقترب من الكيس فوجد بها هدية ملفوفة بشكل بسيط اخذ الكيس و ركض باتجاه البيت ، لم يكن يركض بل وصل الى البيت طيران ، اتجه الى فوق السطح فهناك كثيرا ما كان يجلس ينظر خلف بيتهم ليحاول من بين تلك الاغصان الكبيرة المتفرعة ان يسرق نظرة للحوش و يشاهدها ، فتح العلبة و اذا بتلك الزجاجة التي فاح ما بها من عطر و انتشر ، صعد من الفرحة الى السماء ، عانق النجوم ، جلس في تلك الليلة يحتفل بعيد ميلاده فوق سطح القمر ، هو و زجاجة العطر ، كان عطرها المفضل ، كانت المناسبات بالنسبة له اعياد ففي كل مناسبة كانت هناك زجاجة عطر له ، و هو يجمع مصروفه طوال الشهر لكي يفاجئها بتلك الهداية البسيطة و لكنها بالنسبة لهم غالية جدا" ، يندر الكلام بينهم ، فقط نظرات و اشارات ، و الحب كان اقوى من اي حب في زمننا هذا  كانت هي كل شيء بالنسبة له .. حتى اتى ذلك اليوم .
اصيب بالحمى فبات في فراشه 5 ايام لا يقوى على الحراك ، يحاول بأن يتحرك و لكن تلك الحمى التي انتشرت و انتقلت اليه جعلته ملازم سريره و غرفته ، حاول عدة مرات ولكن لا جدوى من الحراك ، كان يعد تلك الايام و الساعات و ينتظر الشفاء حتى اتى ذلك اليوم الذي صحا من نومه فوجد نفسه سليم الجسد والصحة ، نال الكثير من الصبر فشبع و لم يعد له مكان عنده بملابس النوم خرج و ركض نحو بيتها فوقف . توقف كل شيء ، توقف صوت الهواء ، توقف صوت الناس ، صوت الحياة ، صوت الدنيا ، توقف الوقت ، عقارب الساعة ، توقفت ملامحه و كاد ان يتوقف قلبه الذي ينبض بسرعة ... البيت عليه لوحة كبيرة ( للبيع ) .
تغيرت حياته في لحظات كاد ان يجن ، يود ان يبكي و يصرخ ، يكاد ان يضحك و ينوح ، ينظر حوله فرأى احد الصبية سأله عنهم فقال له بأنهم انتقلوا منذ  5 ايام فلقد توفى والدها في الكويت و رجعوا الى هناك .
صمت .. ظلام .. هدوء .. سكون .. ليل لا نهار له ..
جلس في مكانه يفكر بلا شيء ، ضاعت كل الافكار ، بعد 3 سنوات لم يستطع في 5 ايام فقط بأن يخبرها كم اشتاق لها ..
حاول بشتى الطرق بأن يصل اليها ، صغر سنه منعه من السفر دون اهله، حاول ان يسأل و لكن لا جواب ، كل يوم يتجه الى ذلك المكان و لكن لا جديد ، تمنى لو انه كان يكلمها بالهاتف ، لكان هناك أمل بأن يسمع صوتها ضمن مكالمة دولية ولكن .
في يوم من الايام و هو قاطع الامل مر من جوار البيت فلم يجد لوحة ( للبيع ) ابتسم حينما رأى الباب مفتوحا" على مصراعيه و عمال نقل الاثاث يدخلون و يخرجون توجه الى الباب المفتوح و نظر الى الداخل فوجد عائلة جديدة سكنت في البيت ، اقترب منه صاحب البيت فسلم عليه الفتى و سأله هل لديه صلة قرابة بمن كانوا يسكنون هنا ، طبعا لا .
تمر الايام و السنين و لكن لا فائدة ، الكل ينسى و تظل الذكريات حاضرة ، الا هو لا ينسى و لايردها ان تكون مجرد ذكريات فقد كان يعيشها كل يوم ، يستنشق من عطرها ، كان سعر زجاجة العطر لا يتعدى ال30 درهما و حينما انتهى من الدراسة و بدأ العمل في احدى الوزارات فتح مشروعه الصغير وهو محل لبيع العطور في احدى الاسواق القديمة .
مرت سنين و الحال لم يتغير ، انتقل الجميع من الحي القديم و ظل هو ساكن في نفس المكان ، يعمل بعد ان انهى دراسته ، سافر الى الكويت عدة مرات ، بحث عنها في جميع المواقع ، فيس بوك ، تويتر ، انستغرام ، لم يجد اسمها قط . ولا اي شي يدل عليها ، حتى غوغل لم ينجح في ايجادها .
كان الجميع يتعجب منه لماذا يحب ذلك العطر النسائي ، ولا يغيره رغم رخص ثمنه و لم يكن يجيب على تلك الاسئلة و كان يترك لهم اجابة واحدة سطحية و هي انها مسألة ذوق فقط .

فتح عيناه و مسح دمعته الصغيرة ، قطع شريط الذكريات صوت جرس الباب ، نزل الى الحوش و تقدم نحو الباب فتوقف برهة ، اشتم ثيابه تعجب ، فاليوم لم يلمس تلك الزجاجات ، من أين يأتي هذا العطر ، جحظت عيناه تسارعت نبضات قلبه اسرع في خطواته نحو الباب فتح الباب و اذا بطفل صغير يقف امام الباب ينظر اليه مبتسما ، تعجب الرجل من وجود الطفل الذي لم يتجاوز الثلاث سنوات .
نظر الى الخارج فوجد سيارة تقف بالجوار ذات زجاجات مظللة ، سأل الطفل من انت و ماذا تفعل هنا ، اخذ يفكر ، من يزورني في هذا الوقت ، من هذا الطفل ،
حمل الطفل فبكى الرجل لم يحتمل ، فلقد كان الطفل معطرا" بنفس العطر ، اتجه الى السيارة و قبل ان يصل اليها حاول ان يكتم تلك الغصات ، توقف الوقت فجأة و توقف كل شيء .. نزلت امرأة من السيارة في قمة الجمال و الانوثة ، ابتسمت له و قالت .. هذا ولدي و اسمه على اسمك .. لم انسى تلك الطفولة الرومنسية التي زرعتها في قلبي ، رحلت عنك لاسباب قهرية .. اعذرني
هل يعقل بأن ما يحدث في الافلام و المسلسلات حدث لي اليوم ؟؟ هذا كان السؤال الأول الذي اقتحم عقله ، فلم يصدق ما حدث و كان يصرخ في داخله بجملة واحدة و هي ( ولا في الاحلام ) .
لم يستطع ان يتحمل ما حدث له اعطاها الطفل و جلس في مكانه على الارض يود ان يصرخ من الفرحة .. اراد ان يبكي ،  نهض متثاقلا" ممسكا بباب السيارة ، لا يعرف ما يقوله ، هل يغضب منها ، هل يعاتبها ، هل يحضنها ،  و هذا الطفل ، من هو والده و هل هو معها ؟
لم يستطع ان يفتح فمه لكي يكلمها و حاول ان يفتح اي موضوع معها فقالت له بأنها انفصلت عن ابن عمها الذي لم يقدر الحياة الزوجية بعدما خانها مع احدى الفتيات التي يترددن عليه في المحل و كشفته و لم يكن هناك حل سوى الطلاق ، و بررت غيابها بأن وضعهم المادي و النفسي منعها من التواصل معه و لم تنسى اي شيء من ذكرياته الجميلة و حينما تزوجت تركته في خانة ذكريات الطفولة و عاشت حياتها الزوجية و لكن بعد القسوة و المرارة كانت ترجع الى تلك الخانة و تجلس بين تلك الذكريات فتبتسم ، و هي ايضا بحثت فوجدته في احدى المواقع و ظلت تتابعه و تتابع اخباره حتى اختارت هذا اليوم لكي تلتقي به .
قالت له بأن اللقاء الأول كان في الشتاء ، في ديسمبر ، في نفس هذا الوقت ، و قال لها بأنه لم يستطع ان يفارقها فظلت معه في خياله و احلامه و حياته ، ادخلت يدها في السيارة و اخرجت علبة مغلفة و اعطته ، ابتسم و قال لها .. هل هذا من مصروف المدرسة ام ... ضحكت و قالت بأنها اشترته من محل العطور الذي يمتلكه هو .
بدأ حديثه بتلك العبارات التي كان يحاول ان يقولها لها و عن مدى اشتياقه لها و كيف حزن على فراقها ، قال لها بأن قلبه لا يميل الى اي انثى نظر اليها و لم يفكر الا فيها ، و ان حياته كانت لا تحمل الكثير من الألوان ، سوى لون الزجاجة ، البنفسجي الممزوج بالأبيض، حياته كانت عبارة عن ذلك العطر النسائي الذي عاش معه طول هذه السنين .
طال الوقوف امام الباب و تحادثا و دخلا في حوارات طويلة لم تنتهي ، و قرر بعد ساعات من الحديث ان لا يضيع تلك الفرصة مرة اخرى ودعها الى لقاء قريب و بعدها قرر ان يأخذ اجازة و يتوجه الى الكويت لكي يخطبها  و بعد ان تمت الموافقة توجه مع عائلته الى الكويت و  تزوجها و مرت الايام و السنين و عاشا حياتهما و في كل ديسمبر يتذكران حبهما الدافئ الذي اتى في وسط البرد و المطر .. ذلك الحب المعطر بالعطر النسائي .. حب بسيط .. بريء .. جميل


بقلم طلال محمود ....